صفحات منسية

وفاة الخليفة الواثق بالله

يوم 24 ذي الحجة / 232 هـ

المكان/ سامرا وهي مدينة كانت بين بغداد وتكريت على شرقي دجلة وقد خربت وفيها لغات سامراء ممدود وسامرا مقصور وسر من رأ مهموز الآخر وسر من را مقصور الآخر وكان يقال لها سر من رأى فخففها الناس وقالوا سامراء .

 

الحدث /


الواثق بالله هو الخليفة أبو جعفر وأبو القاسم هارون بن المعتصم بالله أبي إسحاق محمد بن هارون الرشيد بن المهدي محمد بن المنصور العباسي البغدادي وأمه رومية اسمها قراطيس أدركت خلافته ولي الأمر بعهد من أبيه في سنة [227 هـ] وكان مولده في شعبان سنة [196هـ] قال يحيى بن أكثم ما أحسن أحد إلى أهل الحرمين ما أحسن إليهم الواثق ما مات وفيهم فقير، و كان الواثق مليح الشعر أبيض تعلوه صفرة حسن اللحية في عينه نكتة وكان وافر الأدب، قال الخطيب استولى أحمد بن أبي داود على الواثق وحمله على التشدد في المحنة والدعاء إلى خلق القرآن وقيل إنه رجع عن ذلك قبيل موته .
وفي سنة إحدى وثلاثين قتل أحمد بن نصر الخزاعي الشهيد ظلما وكان سبب ذلك أن هذا الرجل وهو أحمد بن نصر بن مالك بن الهيثم الخزاعي وكان جده مالك ابن الهيثم من أكبر الدعاة إلى دولة بني العباس الذين قتلوا ولده هذا، وكان أحمد بن نصر هذا له وجاهة ورياسة وكان أبوه نصر بن مالك يغشاه أهل الحديث، وقد بايعه العامة في سنة إحدى ومائتين على القيام بالأمر والنهي حين كثرت الشطار والدعار في غيبة المأمون عن بغداد، وكان أحمد بن نصر من أهل العلم والديانة والعمل الصالح والاجتهاد في الخير وكان من أئمة السنة الآمرين بالمعروف والناهيين عن المنكر، وكان ممن يدعو إلى القول بأن القرآن كلام الله منزل غير مخلوق، وكان الواثق من أشد الناس في القول بخلق القرآن يدعو إليه ليلا ونهارا سرا وجهارا اعتمادا على ما كان عليه أبوه قبله وعمه المأمون من غير دليل ولا برهان ولا حجة ولا بيان ولا سنة ولا قرآن فقام أحمد بن نصر هذا يدعو إلى الله وإلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والقول بأن القرآن كلام الله منزل غير مخلوق في أشياء كثيرة دعا الناس إليها فاجتمع عليه جماعة من أهل بغداد والتف عليه من الألوف أعداد وانتصب للدعوة إلى أحمد بن نصر هذا رجلان وهما أبو هارون السراج يدعو أهل الجانب الشرقي وآخر يقال له طالب يدعو أهل الجانب الغربي فاجتمع عليه من الخلائق ألوف كثيرة وجماعات غزيرة فلما كان شهر شعبان من هذه السنة انتظمت البيعة لأحمد بن نصر الخزاعي في السير على القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والخروج على السلطان لبدعته ودعوته إلى القول بخلق القرآن ولما هو عليه وأمراؤه وحاشيته من المعاصي والفواحش وغيرها، فتواعدوا على أنهم في الليلة الثالثة من شعبان وهي ليلة الجمعة يضرب طبل في الليل فيجتمع الذين بايعوا في مكان اتفقوا عليه وكان من جملة من معهم رجلان من بني أشرس وكانا يتعاطيان الشراب فلما كانت ليلة الخميس شربا في قوم من أصحابهم واعتقدا أن تلك الليلة هي ليلة الوعد فقاما يضربان على طبل في الليل ليجتمع إليهما الناس فلم يجئ أحد، وانخرم النظام وسمع الحرس في الليل فأعلموا نائب السلطنة وهو محمد بن إبراهيم بن مصعب وكان نائبا لأخيه إسحاق بن إبراهيم لغيبته عن بغداد فأصبح الناس متخبطين، واجتهد نائب السلطنة على إحضار هذين الرجلين فأحضرا فعاقبهما فأقرا على أحمد بن نصر فطلبه وأخذ خادما له فاستقره فأقر بما أقر به الرجلان، فجمع جماعة من رؤوس أصحاب أحمد بن نصر معه وأرسل بهم إلى الخليفة ‘بسر من رأى’ وذلك في آخر شعبان فأحضر له جماعة من الأعيان وحضر القاضي أحمد بن أبي داؤد المعتزلي وأحضر أحمد بن نصر ولم يظهر منه على أحمد بن نصر عتب، فلما أوقف أحمد بن نصر بين يدي الواثق لم يعاتبه على شيء مما كان منه في مبايعته العوام على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وغيره بل أعرض عن ذلك كله وقال له: ما تقول في القرآن؟ فقال هو كلام الله، قال أمخلوق هو؟ قال هو كلام الله، وكان أحمد بن نصر قد استقتل وباع نفسه وحضر وقد تحنط وتنور وشد على عورته ما يسترها، فقال له فما تقول في ربك أتراه يوم القيامة؟ فقال يا أمير المؤمنين قد جاء القرآن والأخبار بذلك قال الله تعالى [وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة] وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‘إنكم ترون ربكم كما ترون هذا القمر لا تضامون في رؤيته’ فنحن على الخبر، زاد الخطيب قال الواثق ويحك أيرى كما يرى المحدود المتجسم ويحويه مكان ويحصره الناظر أنا أكفر برب هذه صفته، قلت وما قاله الواثق لا يجوز ولا يلزم ولا يرد به هذا الخبر الصحيح والله أعلم، ثم قال أحمد بن نصر للواثق وحدثني سفيان بحديث يرفعه ‘إن قلب ابن آدم بإصبعين من أصابع الله يقلبه كيف شاء’ وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول ‘يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك’ فقال له إسحاق بن إبراهيم ويحك انظر ما تقول، فقال أنت أمرتني أن أنصح له، فقال الواثق لمن حوله ما تقولون في هذا الرجل؟ فأكثروا القول فيه فقال عبد الرحمن بن إسحاق وكان قاضيا على الجانب الغربي فعزل وكان موادا لأحمد بن نصر قبل ذلك يا أمير المؤمنين هو حلال الدم، وقال أبو عبد الله الأرمني صاحب أحمد بن أبي داؤد اسقني دمه يا أمير المؤمنين، فقال الواثق لابد أن يأتي ما تريد، وقال ابن أبي دؤاد هو كافر يستتاب لعل به عاهة أو نقص عقل، فقال الواثق إذا رأيتموني قمت إليه فلا يقومن أحد معي فإني أحتسب خطاي، ثم نهض إليه بالصمصامة _ وكانت سيفا لعمرو بن معد يكرب الزبيدي أهديت لموسى الهادي في أيام خلافته وكانت صفيحة مسحورة في أسفلها مسمورة بمسامير _ فلما انتهي إليه ضربه بها على عاتقه وهو مربوط بحبل قد أوقف على نطع، ثم ضربه أخرى على رأسه ثم طعنه بالصمصامة في بطنه فسقط صريعا رحمه الله على النطع ميتا فإنا لله وإنا إليه راجعون وأمر الواثق بامتحان الأئمة والمؤذنين بخلق القرآن، وافتك من أسر الروم أربعة آلاف وستمائة نفس _ أي فاداهم _ فقال ابن أبي داود من لم يقل القرآن مخلوق فلا تفتكوه، وفيها جاء المجوس الأردمانيون في مراكب من ساحل البحر الأعظم فدخلوا إشبيلية بالسيف ولم يكن لها سور بعد فجهز لحربهم أمير الأندلس عبد الرحمن المرواني جيشا فالتقوا فانهزم الأردمانيون وأسر منهم أربعة آلاف ولله الحمد .
روي عن صالح بن علي الهاشمي قال حضرت مجلس المهتدي بالله وقد جلس والقصص تقرأ عليه ويأمر بالتوقيع عليها فسرني ذلك وجعلت أنظر إليه ففطن ونظر إلي فغضضت عنه، قال فقال لي: في نفسك شيء تحب أن تقوله، فلما انفض المجلس أدخلت مجلسه فقال: تقول ما دار في نفسك أو أقوله لك، قلت يا أمير المؤمنين ما ترى، قال أقول إنه قد استحسنت ما رأيت منا فقلت في نفسك أي خليفة خليفتنا إن لم يكن يقول القرآن مخلوق!! قال فورد علي أمر عظيم ثم قلت يا نفس هل تموتين قبل أجلك فقلت: نعم، فأطرق ثم قال: اسمع فوالله لتسمعن الحق، فسري عني وقلت ومن أولى بالحق منك وأنت خليفة رب العالمين، قال مازلت أقول القرآن مخلوق صدرا من أيام الواثق حتى أقدم شيخا من أذنة _ وهي قرية بين النهرين _ فأدخل مقيدا وهو شيخ جميل حسن الشيبة، فرأيت الواثق قد استحيا منه ورق له فما زال يدنيه حتى قرب منه وجلس، فقال ناظر ابن أبي داود، قال يا أمير المؤمنين إنه يضعف عن المناظرة، فغضب وقال أبو عبد الله يضعف عن مناظرتك أنت، قال هون عليك وأذن لي واحفظ علي وعليه، ثم قال يا أحمد أخبرني عن مقالتك هذه هي مقالة واجبة داخلة في عقد الدين فلا يكن الدين كاملا حتى تقال؟، قال نعم، قال فأخبرني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين بعثه الله هل ستر شيئا مما أمر به؟ قال لا، قال فدعا إلى مقالتك هذه؟ فسكت… فقال الشيخ يا أمير المؤمنين واحدة، قال الواثق واحدة، ثم قال أخبرني عن الله تعالى حين قال [اليوم أكملت لكم دينكم] أكان الله هو الصادق في إكمال ديننا أو أنت الصادق في نقصانه حتى يقال بمقالتك؟ فسكت أحمد… فقال الشيخ اثنتان يا أمير المؤمنين، قال نعم، فقال أخبرني عن مقالتك هذه أعلمها رسول الله أم جهلها؟ قال علمها قال فدعا إليها؟ فسكت… قال الشيخ ثلاثة، ثم قال: فأتسع لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن يمسك عنها ولم يطالب أمته بها؟ قال نعم، قال واتسع ذلك لأبي بكر وعمر وعثمان وعلي؟ قال نعم، فأعرض الشيخ عنه وقال يا أمير المؤمنين قد قدمت القول بأن أحمد يضعف عن المناظرة يا أمير المؤمنين إن لم يتسع لك من الإمساك عن هذه المقالة ما زعم هذا أنه اتسع للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه فلا وسع الله عليك، قال الواثق نعم كذا هو… اقطعوا قيد الشيخ، فلما قطعوه ضرب بيده فأخذه، فقال الواثق لم أخذته؟ قال لأني نويت أن أوصي أن يجعل معي في كفني لأخاصم هذا به عند الله ثم بكى…، فبكى الواثق وبكينا… ثم سأله الواثق عن حاله وأمر له بصلة، فقال لا حاجة لي بها، ثم قال المهتدي فرجعت عن هذه المقالة وأظن الواثق رجع عنها يومئذ .
قال زرقان بن أبي داود لما احتضر الواثق ردد هذين البيتين:
الموت فيه جميع الخلق مشترك لا سوقة منهـم يبقى ولا ملـك
ما ضر أهل قليـل في تفرقـهم وليس يغني عن الأملاك ما ملكوا
ثم أمر بالبسط فطويت وألصق خده بالتراب وجعل يقول: يا من لا يزول ملكه ارحم من قد زال ملكه، وروى أحمد بن محمد الواثقي أمير البصرة عن أبيه قال كنت أمرض الواثق فلحقته غشية فما شككنا أنه مات، فقال بعضنا لبعض تقدموا فما جسر أحد سواي فلما أردت أن أضع يدي على أنفه فتح عينيه فرعبت ورجعت إلى خلف فتعلقت قبيعة سيفي _ أي ما على مقبضه من فضة أو حديد‏ _ بالعتبة فعثرت واندق السيف وكاد أن يجرحني وجئت فوقفت ساعة فتلف الرجل فشددت لحييه وغمضته وسجيته، وأخذ الفراشون ما تحته ليردوه إلى الخزائن وترك وحده، فقال ابن أبي داود إنا نريد أن نتشاغل بعقد البيعة فاحفظه، فرددت باب المجلس وجلست عند الباب فأحسست بعد ساعة بحركة أفزعتني فدخلت فإذا بجرذون قد استل عين الواثق فأكلها فقلت لا إله إلا الله هذه العين التي فتحها من ساعة فاندق سيفي هيبة لها، وكانت خلافته خمس سنين ونصفا مات بسامرا لست بقين من ذي الحجة سنة اثنتين وثلاثين ومائتين وبايعوا بعده أخاه المتوكل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى