مشاكل وحلول

كيف أصبحت النقود الورقية مرضاً عضالاً؟ وما علاجه؟

سعى المفكرون الاقتصاديون القدامى، وفي مقدمتهم “كينز”، للتخلص من العملات الذهبية، وكانوا يفضلون النقود الورقية بدلا من ذلك، تيسيرًا للمعاملات ولدفع عجلة الاقتصاد، لكن التطورات في تكنولوجيا الوفاء بالتزامات الدفع جعلت الاستغناء عن النقود الورقية أمرًا ممكنًا في العديد من الاقتصاديات الحديثة.

آثار مرغوبة

وفي كتابه “لعنة النقود الورقية”، يؤكد “كينيث روجوف” أستاذ الاقتصاد والإدارة العامة في جامعة “هارفرد” على حتمية إنهاء العملات الورقية في الاقتصاد الحديث تمامًا، مشددًا على أن ما يصفه بـ”الخراب الاجتماعي” الذى تسببه يفوق فوائدها بكثير.

ويؤكد “روجوف” أن فئات العملات الورقية المستخدمة اليوم تمثل قضية رئيسية تؤذي الاقتصاد، حيث غالباً ما تُعتبر الأوراق النقدية ذات الفئات الكبيرة بمثابة شريان الحياة للاقتصاد السرى، بما يدعو للتخلص من العملات الورقية ذات الفئات الكبيرة هذه مثل المائة دولار والخمسمائة يورو وكذلك تلك الخاصة بالألف فرانك سويسرى على الأقل.

وبحسب الآراء المتخصصة في هذا الصدد، فإن التخلص من العملة الورقية سيكون له العديد من الآثار المرغوبة، بما في ذلك الحد من التهرب الضريبي والأعمال غير القانونية، والأجور غير المعلنة التي لا تخضع للرقابة الضريبية، والرشاوى، والكثير من أوجه الاقتصاد الموازي.

كما ستتم مصادرة أو على الأقل تعطيل أعمال العديد من الفئات المستفيدة من وجود العملات الورقية والاقتصادات السرية مثل الإرهابيين وتجار البشر وتجار المخدرات والمقاتلين المرتزقة والسياسيين الفاسدين وغيرهم من ممارسي الأنشطة الإجرامية.

فائدة < صفر

ويقترح “روجوف” بناءً على ذلك وجود نوعين من التعاملات، الأول هو التعاملات الصغيرة والفرعية والتي لا تستدعي وجود عملات بفئات قيمتها كبيرة، مثل تلك التي يطالب بإلغائها، وتعاملات أخرى يمكن إتمامها إلكترونيًا.

وتقدَّر قيمة الورقة النقدية فئة المائة دولار بحوالي 1.4 تريليون دولار متداولة، يرى”روجوف” أنه يتم استخدام النسبة الأغلب منها في الأنشطة غير المشروعة، خاصة إذا تم حساب أن نصيب المواطن الأمريكي هنا يتخطى 4200 دولار للفرد، ما يزيد كثيرًا عمّا يحتفظ به غالبية الأمريكيين من أموال سائلة في منازلهم في ظل التوسع في استخدام النقود الإلكترونية.

وهناك أزمة أخرى يسببها وجود الأموال النقدية بصورة واسعة، وهي استحالة خفض سعر الفائدة عن صفر%، لسببين، الأول: “الحاجز النفسي” في التعامل مع حقيقة تراجع النقود الملموسة عن تلك الإلكترونية، والثاني: وجود نسب متزايدة من النقد خارج النظام المصرفي بما يدعو الأخير لنسب فائدة موجبة سعيًا لجذبها.

ووفقًا لـ”روجوف”، فإن تراجع الفائدة عن صفر% يكون حيويًا لاقتصاد صحي في بعض الأحيان، لأنه يسمح لسعر الفائدة بالتراجع إلى نسبة تعكس حقيقة الاقتصاد وكونه في حالة انكماش، بينما القيمة الموجبة للفائدة تعني نموا، ويكون الأخير نموا في المعروض النقدي الزائف وليس الإنتاج في حالة الركود.

وتبرز الأزمة المالية العالمية هنا كإحدى الحالات التي شكّل فيها إقرار سعر فائدة سالب حلًا جيدًا لامتصاص الأزمة، بحيث يصبح الإقراض أسهل، ويندفع المدخرون نحو الاستثمار بدلًا من مراكمة الأموال بشكل سلبي، غير أن ذلك لم يكن ممكنًا بالأساس بسبب الأموال الطائلة الموجودة خارج النظام المصرفي.

أضرار تفوق الفوائد

ولا يمكن إنكار وجود فوائد لتداول عملات ورقية كبيرة القيمة في بعض الحالات، مثل دفع بعض أثمان الأراضي وغيرها في المناطق النائية والبلدان الأفقر، بل وحتى في بعض المدفوعات التي تجريها بعض الجيوش أو أجهزة المخابرات، ولكنها في كل الأحوال فوائد ضئيلة إذا ما قورنت بالأضرار التي تسببها أوراق النقد الكبيرة.

وما يدعم تصور التأثير السلبي للعملات الورقية كبيرة القيمة على الاقتصاد، حقيقة أن الولايات المتحدة قررت منذ عام 1969 ألا تصدر أي ورقة نقدية أعلى قيمة من فئة الـ100 دولار، في محاولة حينها للسيطرة على الأنشطة غير المشروعة، ولا سيما تجارة المخدرات.

ويقترح “روجوف” استبدال كافة العملات الورقية من الفئات الكبيرة واستخدام أخرى أقل في مدة زمنية في حدود العام، وفي ذلك يرى أن الأغلبية ستلجأ لإيداع ما لديها من مبالغ خارج المصارف في الأخيرة، بما سيسهم في سعر فائدة أكثر عدلًا.

كما أنه سيسهل بهذا الشكل معرفة بعض أصحاب الثروات “غير الظاهرين على السطح”، وستكون ملاحقة الثروات غير المشروعة والتحركات المالية المشبوهة أسهل كثيرًا بهذا الشكل، خاصة في ظل توفير المعاملات الإلكترونية التي أصبحت منتشرة في مختلف ربوع الأرض بديلا ملائما للنقود الورقية، التي يصفها “روجوف” في نهاية كتابه بـ”المرض العضال”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى