مقتل الحلاج
الزمان / 24ذي القعدة – 309هـ
المكان / بغداد – العراق .
الموضوع / مقتل بن محمي الحلاج أحد دعاة القرامطة .
الأحداث /
مفكرة الإسلام : هو أبو مغيث ويقال أبو عبد الله الحسين بن منصور بن محمي الحلاج أحد دعاة القرامطة كان جده مجوسيا واسمه محمي من أهل فارس من بلدة يقال لها البيضاء ونشأ بواسط ويقال بتستر ودخل بغداد وتردد إلى مكة وجاور بها في وسط المسجد في البرد والحر مكث على ذلك سنوات متفرقة وكان يصابر نفسه ويجاهدها ولا يجلس إلا تحت السماء في وسط المسجد الحرام ولا يأكل إلا بعض قرص ويشرب قليلا من الماء معه وقت الفطور مدة سنة كاملة وكان يجلس على صخرة في شدة الحر في جبل أبي قبيس وقد صحب جماعة من سادات المشايخ الصوفية كالجنيد بن محمد وعمرو بن عثمان المكي وأبي الحسين النوري .
قال الخطيب البغدادي والصوفية مختلفون فيه فأكثرهم نفى أن يكون الحلاج منهم ومنهم من صحح له حاله ودون كلامه حتى قال ابن خفيف: الحسين بن منصور عالم رباني، وقال أبو عبد الرحمن السلمي واسمه محمد بن الحسين: سمعت إبراهيم ابن محمد النصر أبادي وعوتب في شيء حكى عن الحلاج في الروح فقال للذي عاتبه إن كان بعد النبيين والصديقين موحد فهو الحلاج، قال الخطيب: والذين نفوه من الصوفية نسبوه إلى الشعبذة في فعله وإلى الزندقة في عقيدته، قال: وله إلى الآن أصحاب ينسبون إليه ويغالون فيه، وقد كان الحلاج في عبارته حلو المنطق وله شعر على طريقة الصوفية .
ولم يزل الناس منذ قتل الحلاج مختلفين في أمره فأما الفقهاء فحكي عن غير واحد من العلماء والأئمة إجماعهم على قتله وأنه قتل كافرا ممخرقا مموها مشعبذا وبهذا قال أكثر الصوفية فيه ومنهم طائفة كما تقدم أجملوا القول فيه وغرهم ظاهره ولم يطلعوا على باطنه ولا باطن قوله فإنه كان في ابتداء أمره فيه تعبد وتأله وسلوك ولكن لم يكن له علم ولا بنى أمره وحاله على تقوى من الله ورضوان فلهذا كان ما يفسده أكثر مما يصلحه، وقال سفيان بن عيينة: من فسد من علمائنا كان فيه شبه من اليهود ومن فسد من عبادنا كان فيه شبه من النصارى؛ ولهذا دخل على الحلاج الحلول والاتحاد فصار من أهل الانحلال والانحراف وقد روي أنه تقلبت به الأحوال وتردد إلى البلدان وهو في ذلك كله يظهر للناس أنه من الدعاة إلى الله عز وجل، وصح أنه دخل إلى الهند وتعلم بها السحر وقال أدعو به إلى الله، وكان أهل الهند يكاتبونه بالمغيث أي أنه من رجال الغيث، ويكاتبه أهل سركسان بالمقيت، ويكاتبه أهل خراسان بالمميز وأهل فارس بأبي عبد الله الزاهد وأهل خوزستان بأبي عبد الله الزاهد حلاج الأسرار، وكان بعض البغاددة حين كان عندهم يقولون له المصطلم وأهل البصرة يقولون له المحير، ويقال إنما سماه الحلاج أهل الأهواز لأنه كان يكاشفهم عن ما في ضمائرهم وقيل لأنه مرة قال لحلاج اذهب لي في حاجة كذا وكذا فقال إني مشغول بالحلج فقال اذهب فأنا أحلج عنك، فذهب ورجع سريعا فإذا جميع ما في ذلك المخزن قد حلجه، يقال إنه أشار بالمرود _ أي الوَتِدُ _ فامتاز الحب عن القطن وفي صحة هذا ونسبته إليه نظر وإن كان قد جرى مثل هذا فالشياطين تعين أصحابها ويستخدمونهم، وقيل لأن أباه كان حلاجا ومما يدل على أنه كان ذا حلول في بدء أمره أشياء كثيرة منها شعره في ذلك فمن ذلك قوله:
جبلت روحك في روحي كما يجبل العنبر بالمسك الفنق
فـإذا مسـك شـيء مسنــي وإذا أنت أنا لا نفتـــرق
والمسك الفنق هو المسك المنعم الجيد وقوله:
مزجت روحك في روحي كما تمزج الخمرة بالماء الزلال
فـإذا مسـك شـيء مسـني فإذا أنت أنا في كـل حـال
وقد كان الحلاج يتلون في ملابسه فتارة يلبس لباس الصوفية وتارة يتجرد في ملابس بالية وتارة يلبس لباس الأجناد ويعاشر أبناء الأغنياء والملوك وقد رآه بعض أصحابه في ثياب رثة وبيده ركوة وعكازة وهو سائح فقال له ما هذه الحالة يا حلاج فأنشأ يقول:
لئن أمسيت في ثـوب عـديم لقد بلي على حر كريـم
فلا يغررك أن أبصرت حـالا مغيرة عن الحال القديـم
فلي نفس ستتلف أو سترقــى لعمرك بي إلى أمر جسيم
ومن كلامه وقد سأله رجل أن يوصيه بشيء ينفعه الله به فقال: عليك نفسك إن لم تشغلها بالحق وإلا شغلتك عن الحق وقال له رجل عظني فقال: كن مع الحق بحكم ما أوجب وروى الخطيب بسنده إليه أنه قال: علم الأولين والآخرين مرجعه إلى أربع كلمات حب الجليل وبغض القليل واتباع التنزيل وخوف التحويل وقد أخطأ الحلاج في المقامين الأخيرين فلم يتبع التنزيل ولم يبق على الاستقامة بل تحول عنها إلى الاعوجاج والبدعة والضلالة نسأل الله العافية وقال أبو عبد الرحمن السلمي عن عمرو بن عثمان المكي أنه كان يلعنه ويقول لو قدرت عليه لقتلته بيدي فسئل عن السبب فقال كنت أماشي الحلاج في بعض أزقة مكة وكنت أقرأ القرآن فسمع قراءتي فقال: يمكنني أن أقول مثل هذا ففارقته .
وذكر أبو القاسم القشيري في رسالته في باب حفظ قلوب المشايخ أن عمرو بن عثمان دخل على الحلاج وهو بمكة وهو يكتب شيئا في أوراق فقال له ما هذا فقال: هو ذا أعارض القرآن قال فدعا عليه فلم يفلح بعدها وأنكر على أبي يعقوب الأقطع تزويجه إياه ابنته وكتب عمرو بن عثمان إلى الآفاق كتبا كثيرة يلعنه فيها ويحذر الناس منه فساح الحلاج في البلاد وجعل يظهر أنه يدعو إلى الله ويستعين بأنواع من الحيل ولم يزل ذلك دأبه وشأنه حتى أحل الله به بأسه الذي لا يرد عن القوم المجرمين فقتله بسيف الشرع الذي لا يقع إلا بين كتفي زنديق والله أعدل من أن يسلطه على صديق كيف وقد تهجم على القرآن العظيم وقد أراد معارضته في البلد الحرام حيث نزل به جبريل وقد قال تعالى [ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم] ولا إلحاد أعظم من هذا وقد أشبه الحلاج كفار قريش في معاندتهم كما قال تعالى عنهم [وإذا تتلى عليهم آياتنا قالوا قد سمعنا لو نشاء لقلنا مثل هذا إن هذا إلا أساطير الأولين] .
أما عن حيل الحلاج فقد روى الخطيب البغدادي أن الحلاج بعث رجلا من خاصة أصحابه إلى بلد من بلاد الجبل وأمره أن يظهر لهم العبادة والصلاح والزهد فإذا رآهم قد أقبلوا عليه وأحبوه واعتقدوه أظهر لهم أنه قد عمي ثم يظهر لهم بعد أيام أنه قد تكسح فإذا سعوا في مداواته قال لهم إنه لا ينفعني شيء مما تفعلون ثم يظهر لهم بعد أيام أنه قد رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام وهو يقول له إن شفاءك لا يكون إلا على يد القطب وإنه سيقدم عليك في يوم كذا من شهر كذا وصفته كذا وكذا وقال له الحلاج إني سأقدم عليك في ذلك الوقت فذهب ذلك الرجل إلى تلك البلاد وفعل ما أمره به الحلاج فأصبح الناس يقودونه إلى المسجد ثم صاروا يحملونه ويكرمونه حتى كان الوقت الذي ذكر لهم واتفق هو والحلاج عليه فأقبل الحلاج حتى دخل البلد متخفيا وعليه ثياب صوف بيض فدخل المسجد ولزم سارية يتعبد لا يلتفت إلى أحد فعرفه الناس بالصفات التي وصف لهم ذلك العليل فابتدروا إليه يسلمون عليه ويتمسحون به ثم جاءوا إلى ذلك المتزامن فأخبروه بخبره فقال صفوه لي فوصفوه له فقال هذا الذي أخبرني عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام وأن شفائي علي يديه اذهبوا بي إليه فحملوه حتى وضعوه بين يديه فكلمه فعرفه فقال يا أبا عبد الله إني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام ثم ذكر له رؤياه فرفع الحلاج يديه فدعا له ثم تفل من ريقه في كفيه ثم مسح بهما على عينيه ففتحهما كأن لم يكن بهما داء قط فأبصر ثم أخذ من ريقه فمسح على رجليه فقام من ساعته فمشى كأنه لم يكن به شيء والناس حضور وأمراء تلك البلاد وكبراؤهم عنده فضج الناس ضجة عظيمة وكبروا الله وسبحوه وعظموا الحلاج تعظيما زائدا ثم أقام عندهم مدة يكرمونه ويعظمونه فلما أراد الخروج عنهم أرادوا أن يجمعوا له مالا كثيرا فقال أما أنا فلا حاجة لي بالدنيا وإنما وصلنا إلى ما وصلنا إليه بترك الدنيا ولعل صاحبكم هذا أن يكون له إخوان وأصحاب من الأبدال الذين يجاهدون بثغر طرسوس ويحجون ويتصدقون محتاجين إلى ما يعينهم على ذلك فقال ذلك الرجل المتزامن صدق الشيخ قد رد الله علي بصري ومن الله علي بالعافية لأجعلن بقية عمري في الجهاد في سبيل الله والحج إلى بيت الله مع إخواننا الأبدال والصالحين ثم إن الحلاج خرج عنهم ومكث ذلك الرجل بين أظهرهم مدة إلى أن جمعوا له مالا كثيرا ألوفا من الذهب والفضة فلما اجتمع له ما أراد ودعهم وخرج عنهم فذهب إلى الحلاج فاقتسما ذلك المال .
ولما ورد بغداد جعل يدعو إلى نفسه ويظهر أشياء من المخاريق والشعوذة وغيرها من الأحوال الشيطانية وأكثر ما كان يروج على الرافضة لقلة عقولهم وضعف تمييزهم بين الحق والباطل وقد استدعى يوما أحد رؤساء الرافضة فدعاه إلى الإيمان به فقال له الرافضي إني رجل أحب النساء وإني أصلع الرأس وقد شبت فإن أنت أذهبت عني هذا وهذا آمنت بك وبأنك الإمام المعصوم، وإن شئت قلت إنك نبي، وإن شئت قلت أنك أنت الله، قال فبهت الحلاج ولم يحر إليه جوابا .
قال الشيخ أبو الفرج ابن الجوزي كان الحلاج مع كل قوم على مذهبهم وإن كانوا أهل سنة أو رافضة أو معتزلة أو صوفية أو فساقا أو غيرهم ولما أقام بالأهواز جعل ينفق من دراهم يخرجها يسميها ‘دراهم القدرة’ فسئل الشيخ أبو علي الجبائي عن ذلك فقال إن هذا كله مما يناله البشر بالحيلة ولكن أدخلوه بيتا لا منفذ له ثم سلوه أن يخرج لكم جرزتين من شوك فلما بلغ ذلك الحلاج تحول من الأهواز .
أما عن صفة مقتله فقد قال الخطيب البغدادي وغيره كان الحلاج قد قدم آخر قدمة إلى بغداد فصحب الصوفية وانتسب إليهم وكان الوزير إذ ذاك حامد بن العباس فبلغه أن الحلاج قد أضل خلقا من الحشم والحجاب في دار السلطان ومن غلمان نصر القشوري الحاجب وجعل لهم في جملة ما ادعاه أنه يحيي الموتى وأن الجن يخدمونه ويحضرون له ما يشاء ويختار ويشتهي وقال إنه أحيا عدة من الطير وذكر أن رجلا يقال له محمد بن علي القنائي الكاتب يعبد الحلاج ويدعو الناس إلى طاعته فطلبه الوزير فأخذ فأقر أنه من أصحاب الحلاج ووجد في منزله أشياء بخط الحلاج مكتوبة بماء الذهب في ورق الحرير مجلدة بأفخر الجلود ووجد عنده سفطا _ والسَّفَطُ: الذي يُعَبَّأ فيه الطِّيبُ وما أَشبهه من أَدَواتِ النساء _ فيه من رجيع الحلاج وعذرته وبوله وأشياء من آثاره وبقية خبز من زاده فطلب الوزير من الخليفة المقتدر بالله أن يتكلم في أمر الحلاج وكان نصر الحاجب قد افتتن به وظن أنه رجل صالح وكان قد أدخله على المقتدر بالله فرقاه من وجع حصل له فاتفق زواله عنه وكذلك وقع لوالدة المقتدر أن رقاها فزال عنها الذي تجد فراج سوقه وحظي في دار السلطان فلما انتشر الكلام فيه سلم إلى الوزير حامد بن العباس وفوض أمره إليه فاستدعى بجماعة من أصحاب الحلاج فتهددهم فاعترفوا له أنه قد صح عندهم أنه إله مع الله وأنه يحيي الموتى، وكاشفوا الحلاج بذلك ورموه به في وجهه فجحد ذلك وكذبهم وقال أعوذ بالله أن أدعي الربوبية أو النبوة وإنما أنا رجل أعبد الله وأكثر له الصوم والصلاة وفعل الخير لا أعرف غير ذلك وجعل لا يزيد على الشهادتين والتوحيد ويكثر أن يقول سبحانك لا إله إلا أنت عملت سوءا وظلمت نفسي فاغفر لي إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت وكانت عليه مدرعة سوداء واصلة إلى ركبتيه وفي رجليه ثلاثة عشر قيدا إلى ركبتيه أيضا وكان مع ذلك يصلي في كل يوم وليلة ألف ركعة وجمع له الفقهاء فأجمعوا على كفره وزندقته وأنه ساحر ممخرق ورجع عنه رجلان صالحان ممن تابعوه أحدهما أبو علي هارون بن عبد العزيز الأوارجي والآخر يقال له الدباس فذكرا من فضائحه وما كان يدعو الناس إليه من الكذب والفجور والمخرفة والسحر شيئا كثيرا، وكذلك أحضرت زوجة ابنه سليمان فذكرت عنه فضائح كثيرة من ذلك أنه أراد أن يغشاها وهي نائمة فانتبهت فقال قومي إلى الصلاة وإنما كان يريد أن يطأها، وأمر ابنتها بالسجود له فقالت أيسجد بشر لبشر فقال نعم إله في السماء وإله في الأرض، ثم أمرها أن تأخذ من تحت بارية هنالك ما أرادت _ وهي الحصير المعمول من القصب _ فوجدت تحنها دنانير كثيرة مبدورة، ولما كان معتقلا في دار حامد بن العباس الوزير دخل عليه بعض الغلمان ومعه طبق فيه طعام ليأكل منه فوجده قد ملأ البيت من سقفه إلى أرضه فذعر ذلك الغلام وفزع فزعا شديدا وألقى ما كان في يده من ذلك الطبق والطعام ورجع محموما فمرض عدة أيام .
ولما كان آخر مجلس من مجالسه أحضر القاضي أبو عمر محمد بن يوسف وكان عفيفا شديد الحرمة وجيء بالحلاج وقد أحضر له كتاب من دور بعض أصحابه وفيه: من أراد الحج ولم يتيسر له فليبن في داره بيتا لا يناله شيء من النجاسة ولا يمكن أحدا من دخوله فإذا كان في أيام الحج فليصم ثلاثة أيام وليطف به كما يطاف بالكعبة ثم يفعل في داره ما يفعله الحجيج بمكة ثم يستدعي ثلاثين يتيما فيطعمهم من طعامه ويتولى خدمتهم بنفسه ثم يكسوهم قميصا قميصا ويعطي كل واحد منهم سبعة دراهم أو قال ثلاثة دراهم فإذا فعل ذلك قام له مقام الحج، وإن من صام ثلاثة أيام لا يفطر إلا في اليوم الرابع على ورقات هندبا أجزأه ذلك عن صيام رمضان، ومن صلى في ليلة ركعتين من أول الليل إلى آخره أجزأه ذلك عن الصلاة بعد ذلك، وأن من جاور بمقابر الشهداء وبمقابر قريش عشرة أيام يصلي ويدعو ويصوم ثم لا يفطر إلا على شيء من خبز الشعير والملح الجريش أغناه ذلك عن العبادة بقية عمره .
فقال له القاضي أبو عمر من أين لك هذا فقال من كتاب الإخلاص للحسن البصري فقال له: كذبت يا حلال الدم قد سمعنا كتاب الإخلاص للحسن بمكة ليس فيه شيء من هذا، فأقبل الوزير على القاضي فقال له قد قلت يا حلال الدم فاكتب ذلك في هذه الورقة وألح عليه وقدم له الدواة فكتب ذلك في تلك الورقة وكتب من حضر خطوطهم فيها وأنفذها الوزير إلى المقتدر، وجعل الحلاج يقول لهم ظهري حمى ودمي حرام وما يحل لكم أن تتأولوا علي واعتقادي الإسلام ومذهبي السنة وتفضيل أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير وسعد وسعيد وعبد الرحمن ابن عوف وأبي عبيدة بن الجراح ولي كتب في السنة موجودة في الوارقين فالله الله في دمي فلا يلتفتون إليه ولا إلى شيء مما يقول، ورد الحلاج إلى محبسه وتأخر جواب المقتدر ثلاثة أيام حتى ساء ظن الوزير حامد بن العباس فكتب إلى الخليفة يقول له إن أمر الحلاج قد اشتهر ولم يختلف فيه اثنان وقد افتتن كثير من الناس به فجاء الجواب بأن يسلم إلى محمد بن عبد الصمد صاحب الشرطة وليضربه ألف سوط فإن مات وإلا ضربت عنقه ففرح الوزير بذلك وطلب صاحب الشرطة فسلمه إليه وبعث معه طائفة من غلمانه يوصلونه معه إلى محل الشرطة من الجانب الغربي خوفا من أن يستنقذ من أيديهم وذلك بعد العشاء الآخرة في ليلة الثلاثاء لست بقين من ذي القعدة وهو راكب على بغل عليه إكاف وحوله جماعة من أعوان السياسة على مثل شكله فاستقر منزله بدار الشرطة في هذه الليلة فذكر أنه بات يصلي تلك الليلة ويدعو دعاء كثيرا .
ولما أخرج الحلاج من المنزل الذي بات فيه ليذهب به إلى القتل أنشد:
طلبت المستقـر بكـل أرض فلم أر لي بأرض مستقـرا
وذقت من الزمان وذاق منـي وجدت مذاقه حلوا ومـرا
أطعت مطامعي فاستعبـدتني ولو أني قنعت لعشت حرا
وقيل إنه قالها حين قدم إلى الجذع ليصلب والمشهور الأول فلما دعي بالنطع والسيف أخذ يقول كذا من يشرب الراح _ الرَّاحُ: وهي الخمر _ مع التنين في الصيف _ والتِّنّين: نجمٌ من نجوم السماء _ ثم قال [يستعجل بها الذي لا يؤمنون بها والذين آمنوا مشفقون منها ويعلمون أنها الحق] ثم لم ينطق بعد ذلك حتى فعل به ما فعل قالوا ثم قدم فضرب ألف سوط ثم قطعت يداه ورجلاه وهو في ذلك كله ساكت ما نطق بكلمة ولم يتغير لونه ويقال إنه جعل يقول مع كل سوط أحد أحد، قال أبو عبد الرحمن سمعت عبد الله بن علي يقول سمعت عيسى القصار يقول آخر كلمة تكلم بها الحلاج حين قتل أن قال حسب الواحد إفراد الواحد له فما سمع بهذه الكلمة أحد من المشايخ إلا رق له واستحسن هذا الكلام منه، وقال السلمي سمعت أبا بكر المحاملي يقول سمعت أبا الفاتك البغدادي وكان صاحب الحلاج قال رأيت في النوم بعد ثلاث من قتل الحلاج كأني واقف بين يدي ربي عز وجل وأنا أقول يا رب ما فعل الحسين بن منصور فقال كاشفته بمعنى فدعا الخلق إلى نفسه فأنزلت به ما رأيت، ومنهم من قال بل جزع عند القتل جزعا شديدا وبكى بكاء كثيرا فالله أعلم، وقال الخطيب حدثنا عبد الله بن أحمد بن عثمان الصيرفي قال قال لنا أبو عمر بن حيوية لما أخرج الحسين بن منصور الحلاج ليقتل مضيت في جملة الناس ولم أزل أزاحم حتى رأيته فدنوت منه فقال لأصحابه لا يهولنكم هذا الأمر فإني عائد إليكم بعد ثلاثين يوما ثم قتل فما عاد .
وذكر الخطيب أنه قطعت يداه ورجلاه وحز رأسه وأحرقت جثته وألقي رمادها في دجلة ونصب الرأس يومين ببغداد على الجسر ثم حمل إلى خراسان وطيف به في تلك النواحي وجعل أصحابه يعدون أنفسهم برجوعه إليهم بعد ثلاثين يوما، وزعم بعضهم أنه رأى الحلاج من آخر ذلك اليوم وهو راكب على حمار في طريق النهروان فقال لعلك من هؤلاء النفر الذين ظنوا أني أنا هو المضروب المقتول إني لست به وإنما ألقي شبهي على رجل ففعل به ما رأيتم، وكانوا بجهلهم يقولون إنما قتل عدو من أعداء الحلاج فذكر هذا لبعض علماء ذلك الزمان فقال إن كان هذا القائل صادقا فقد تبدى له شيطان على صورة الحلاج ليضل الناس به كما ضلت فرقة النصارى بالمصلوب قال الخطيب واتفق له أن دجلة زادت في هذا العام زيادة كثيرة فقال الناس إنما زادت لأن رماد جثة الحلاج خالطها وللعوام في مثل هذا وأشباهه ضروب من الهذيانات قديما وحديثا ونودي ببغداد أن لا تشترى كتب الحلاج ولا تباع وكان قتله يوم الثلاثاء لست بقين من ذي القعدة من سنة تسع وثلاثمائة ببغداد