صفحات منسية

المقاطعة العامة ‘وما أشبه الليلة بالبارحة’

 بالبارحة’

الزمان/ 1محرم – سنة 7 من النبوة

المكان/ شعب أبي طالب ـ مكة.

الموضوع/المشركون يفرضون مقاطعة عامة على بني هاشم وبني المطلب من أجل تسليم النبي صلى الله عليه وسلم .

الأحداث :

مفكرة الإسلام : عندما جاء الأمر الإلهي لعبد الله ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم بالصدع بالدعوة والبلاغ العلني، قام النبي صلى الله عليه وسلم فدعا الناس وجاهرهم بالدعوة، وبدأ يسفه آلهتهم الباطلة، ويكشف زيفها وعجزها، وعندها بدأت قريش في الصد عن سبيل الله بإيذاء الصحابة والمستضعفين، وبلغ الأذى مداه في العام الخامس من النبوة، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بالهجرة إلى الحبشة، فكانت هجرة الحبشة الأولى ثم الثانية .

وفي العام السادس وقعت أربع حوادث ضخمة في فترة متقاربة بالنسبة للمشركين، وهي: إسلام حمزة، وإسلام عمر، ورفض المساومة من جانب النبي صلى الله عليه وسلم على تبادل العبادة مع المشركين، ثم تواثق بني المطلب وبني هاشم كلهم مسلمهم وكافرهم على حيطة ومنع النبي صلى الله عليه وسلم من أعدائه، ولو سالت دماءهم جميعًا من أجل ذلك بدافع العصبية والقبلية، وعندها قرر مشركو قريش القيام بعمل قوي ضد النبي صلى الله عليه وسلم وأتباعه .

فاجتمع المشركون في خيف بني كنانة وتحالفوا على بني هاشم وبني المطلب بمقاطعة عامة في كل شيء؛ بيع، وشراء، ونكاح، ومخالطة، ومجالسة، وحتى مجرد الكلام والسلام! وذلك حتى يسلموا النبي صلى الله عليه وسلم لقريش فتقتله، وكتبوا بذلك صحيفة وعلقوها في جوف الكعبة، يقال كتبها منصور بن عكرمة بن عامر بن هاشم، ويقال النضر بن الحارث، والصحيح أنه بغيض بن عامر بن هاشم فدعا النبي صلى الله عليه وسلم عليه فشُلّت يده، وانحاز بنو هاشم وبنو المطلب كلهم، كبيرهم وصغيرهم، رجلاً وامرأة في شعب أبي طالب عدا أبا لهب؛ فإنه ظاهر المشركين على عشيرته ولم يدخل الشعب .

وظفرت قريش بالحاضر وجدوا في تحصيل الغائب وقطعوا عنهم المادة والميرة ولم يرعوا حق صحبة ولا جيرة وأخفوا بروقهم البواسم، ومنعوهم من الخروج إلا في المواسم، ولم يمكنوهم من شيء من الأسباب وكانت مدة إقامتهم فيه ثلاثة أعوام .

وذكر أنه لما سمعت قريش بنصرة أبي طالب لابن أخيه ورأوا منه الجد وآيسوا منه، أبدوا لبني عبد المطلب الجفا، وانطلق أبو طالب بقومه فقاموا بين أستار الكعبة فدعوا الله على ظلم قومهم لهم وفي قطيعتهم أرحامهم واجتماعهم على محاربتهم وتناولهم بسفك دمائهم، فقال أبو طالب: اللهم إن أبى قومنا إلا النصر علينا فعجل نصرنا، وحل بينهم وبين قتل ابن أخي، ثم أقبل إلى جمع قريش وهم ينظرون إليه والى أصحابه فقال: ندعو برب هذا البيت على القاطع المنتهك للمحارم والله لتنتهين عن الذي تريدون أو لينزلن الله بكم في قطيعتنا بعض الذي تكرهون، فأجابوه: إنكم يا بني عبد المطلب لا صلح بيننا وبينكم ولا رحم إلا على قتل هذا الصبي السفيه، ثم عمد أبو طالب فأدخل الشعب ابن أخيه وبني أبيه ومن اتبعهم من بين مؤمن وكافر، فالمؤمن دينا والكافر حمية فدخلوا شعبهم وهو شعب أبي طالب في ناحية من مكة ويمكن أن يقال ذلك الشعب الذي كان في الحجون محلا لسكن أبي طالب في غير أيام منى وقيل هو الذي عند الجمرة الوسطى والله أعلم .

فلما قدم عمرو بن العاص وعبد الله بن أبي ربيعة إلى قريش وأخبروهم بالذي قال النجاشي لمحمد وأصحابه أشتد وجدهم وآذوا النبي وأصحابه أذى شديدا وضربوهم في كل طريق وحصروهم في شعبهم وقطعوا عنهم المادة من الأسواق فلم يدعوا أحدا من الناس يدخل عليهم طعاما ولا شيئا مما يرفق بهم وكانوا يخرجون من الشعب إلى الموسم وكانت قريش تبادرهم إلى الأسواق فيشترونها ويغلونها عليهم، ونادى منادي الوليد بن المغيرة _ وهو الذي نزلت فيه عتل بعد ذلك زنيم أي فاحش مع ذلك لئيم _ أيما رجل وجدتموه عند طعام يشتريه فزيدوا عليه، وفي رواية: فمن رأيتموه عند طعام يشتريه فزيدوا عليه وحولوا بينهم وبينه ومن لم يكن عنده نقد فليشتر وعلي النقد، ففعلوا ذلك ثلاث سنين حتى بلغ بالقوم الجهد الشديد وحتى سمعوا أصوات صبيانهم يتضاغون من وراء الشعب .

ويصبح أهل قريش وقد باتوا يسمعون من الليل أصوات صبيان بني هاشم الذين في الشعب يتضاغون من الجوع فإذا أصبحوا جلسوا عند الكعبة فيسأل بعضهم بعضا فيقول الرجل لصاحبه: كيف بات أهلك البارحة؟ فيقول: بخير، فيقول: لكن إخوانكم هؤلاء الذين في الشعب بات صبيانهم يتضاغون من الجوع حتى أصبحوا، فمنهم من يعجبه ما يلقى محمد ورهطه ومنهم من يكره ذلك .

وأصبح المشركون يكرهون ما فيه بنو هاشم من البلاء والجهد حتى تأفف القوم مما أصاب بني هاشم، وأظهروا كراهيتهم لصحيفتهم القاطعة الظالمة التي تعاهدوا فيها على محمد ورهطه، وحتى أراد رجال منهم أن يبرؤوا منها، ولكن أبا طالب مع هذا كان يخاف أن يغتالوا رسول الله ليلا أو سرا؛ فكان إذا أخذ رسول الله مضجعه أو رقد بعثه أبو طالب من فراشه وجعله بينه وبين بنيه خشية أن يقتلوه، وروي أن أبا طالب طوال مدتهم في الشعب كان يأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فيأتي فراشه كل ليلة حتى يراه من أراد به شرا أو غائلة فإذا نام الناس أمر أحد بنيه أو اخوته أو بني عمه فاضطجع على فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر رسول الله أن يأتي بعض فرشهم فيرقد عليها .

واستمر الحصار والمقاطعة لمدة ثلاث سنوات متصلة، وقد بلغ الجَهد والتعب أقصاه بمن في الشعب؛ حتى أكلوا أوراق الشجر وجلود الذبائح، وحتى كان يُسمع صوت بكاء النساء والأطفال من الجوع من داخل الشعب، ولا يسمح لهم بالخروج إلا أيام الأشهر الحُرُم فقط .

وكان لا يصل إليهم شيء إلا سرا أو مستخفى به ممن أراد صلتهم من قريش، فمن ذلك أن حكيم بن حزام خرج يوما ومعه إنسان يحمل طعاما إلى عمته خديجة ابنة خويلد وهي تحت رسول الله ومعه في الشعب إذ لقيه أبو جهل فقال: تذهب بالطعام إلى بني هاشم والله لا تبرح أنت وطعامك حتى أفضحك عند قريش، فقال له أبو البختري بن هاشم بن الحارث بن أسد: تمنعه أن يرسل إلى عمته بطعام كان لها عنده، فأبى أبو جهل أن يدعه فقام إليه أبو البختري بساق البعير فشجه ووطئه وطئا شديدا، وحمزة بن عبد المطلب قريبا يرى ذلك وهم يكرهون أن يبلغ ذلك رسول الله وأصحابه فيشمتوا بهم، فقال أبو البختري بن هاشم في ذلك:

ذق يا أبا جهل لقيت غمـا          كذلك الجهل يكون ذما

سوف ترى عودي إن ألما  كذلك اللوم يعـود ذما

تعلم أنـا نفرج المهمـا   ويمنع الأبلج أن يطما

ولهذا وغيره لم تكن كلمة قريش مجتمعة على المقاطعة، وذلك لوجود أرحام ومصاهرة مع بني هاشم وبني المطلب، فقدّر الله عز وجل أن يسير بعض العقلاء في نقض الصحيفة الظالمة، وذلك في المحرم من العام العاشر من النبوة، قام هشام بن عمرو وزهير بن أبي أمية والمطعم بن عدي وأبو البختري بن هشام وزمعة بن الأسود، وتحالفوا على نقض الصحيفة، ودار حوار شديد في صحن الكعبة، وجدل مع أبي جهل لعنه الله، وعندها حضر أبو طالب للكعبة فظن المشركون أنه قد جاء لتسليم النبي لهم لقتله، ولكنه أخبرهم أن الله قد أوحى لنبيه أن الأَرَضة ـ وهي حشرة ـ قد سلطها الله على الصحيفة، فأكلت ما فيها من ظلم وجور عدا اسم الله؛ فدخلوا جوف الكعبة فوجدوا الصحيفة كما أخبرهم بها النبي صلى الله عليه وسلم، فعندها نُقضت الصحيفة، وخرج الرسول صلى الله عليه وسلم ومن معه من الحصار منتصرين .

ذكر أهل السير أن الله عز وجل برحمته أرسل على صحيفة قريش التي كتبوا فيها تظاهرهم على بني هاشم الأرضة فلم تدع فيها اسما هو لله عز وجل إلا أبقته وأكلت كل ما فيها من الظلم والقطيعة والبهتان، فأخبر الله عز وجل بذلك رسوله فأخبر أبا طالب، فقال أبو طالب: يا ابن أخي من حدثك هذا؟ وليس يدخل إلينا أحد! ولا تخرج أنت إلى أحد! ولست في نفسي من أهل الكذب! فقال له رسول الله: أخبرني ربي، فقال له عمه: إن ربك لحق، وأنا أشهد أنك صادق، فجمع أبو طالب رهطه ولم يخبرهم ما أخبره به رسول الله كراهية أن يفشوا ذلك الخبر فيبلغ المشركين فيحتالوا للصحيفة بالخبث والمكر .

وانطلق أبو طالب برهطه حتى دخلوا المسجد والمشركون من قريش في ظل الكعبة، فلما أبصروه تباشروا به وظنوا أن الحصر والبلاء حملهم على أن يدفعوا إليهم رسول الله فيقتلوه، فلما انتهى إليهم أبو طالب ورهطه رحبوا بهم وقالوا: قد آن لك أن تطيب نفسك عن قتل رجل في قتله صلاحكم وجماعتكم، وفي حياته فرقتكم وفسادكم .

فقال أبو طالب: قد جئتكم في أمر لعله يكون فيه صلاح وجماعة فاقبلوا ذلك منا؛ هلموا صحيفتكم التي فيها تظاهركم علينا، فجاءوا بها ولا يشكون إلا أنهم سيدفعون رسول الله إليهم إذا نشروها، فلما جاءوا بصحيفتهم قال أبو طالب: صحيفتكم بيني وبينكم وإن ابن أخي قد خبرني ولم يكذبني أن الله عز وجل قد بعث على صحيفتكم الأرضة فلم يدع لله فيها اسما إلا أكلته وبقي فيها الظلم والقطيعة والبهتان، فإن كان كاذبا فلكم على أن أدفعه إليكم تقتلونه، وإن كان صادقا فهل ذلك ناهيكم عن تظاهركم علينا، فأخذ عليهم المواثيق وأخذوا عليه، فلما نشروها فإذا هي كما قال رسول الله وكانوا هم بالغدر أولى منهم .

واستبشر أبو طالب وأصحابه وقالوا أينا أولى بالسحر والقطيعة والبهتان، فقام المطعم بن عدي بن نوفل بن عبد مناف وهشام بن عمرو أخو عامرا بن لؤي بن حارثه فقالوا نحن براء من هذه الصحيفة القاطعة العادية الظالمة، ولن نمالئ أحدا في فساد أنفسنا وأشرافنا ونتابع على ذلك ناس من أشراف قريش فخرج القوم من شعبهم وقد أصابهم الجهد الشديد .

وقد أثبت هذا الحصار مدى صلابة المسلمين أمام التحديات، وأيضًا محصت الصف المسلم من أصحاب القلوب المريضة، وأثبت هذا الحصار صدق دعوة النبي صلى الله عليه وسلم وما أخبر به من معجزات

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى